فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الخازن:

قوله: {يسبح له ما في السموات وما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم هو الذي بعث في الأميين} يعني العرب وكانت العرب أمة أمية لا تكتب ولا تقرأ حتى بعث فيهم نبي الله وقيل الأمي هو الذي على ما خلق عليه كأنه منسوب إلى أمه {رسولًا منهم} يعني محمد صلى الله عليه وسلم يعلمون نسبه وهو من جنسهم وقيل أميًا مثلهم وإنما كان أميًا لأن نعته في كتب الأنبياء النبي الأمي وكونه بهذه الصفة أبعد من توهم الاستعانة بالكتابة على ما أتى به من الوحي والحكمة ولتكون حاله مشاكلة لحال أمته الذين بعث فيهم وذلك أقرب إلى صدقه {يتلوا عليهم آياته} أي التي يبين رسالته وقيل آياته التي يتميز بها الحلال من الحرام والحق من الباطل {ويزكيهم} أي يطهرهم من دنس الشرك {ويعلمهم الكتاب} أي القرآن وقيل الفرائض {والحكمة} قيل هي السنة {وإن كانوا من قبل} أي من قبل إرسال محمد صلى الله عليه وسلم {لفي ضلال مبين وآخرين منهم} أي من المؤمنين الذين ظهروا يدينون بدينهم لأنهم إذا أسلموا صاروا منهم فإن المسلمين كلهم أمة واحدة، وقيل أراد بالآخرين العجم وهو قول ابن عمر وسعيد بن جبير ورواية عن مجاهد يدل عليه ما روي عن أبي هريرة قال: «كنا جلوسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ نزلت سورة الجمعة فتلاها فلما بلغ وآخرين منهم لما يلحقوا بهم قال له رجل يا رسول الله من هؤلاء الذين لم يلحقوا بنا فلم يكلمه حتى ساله ثلاثًا قال وسلمان الفارسي فينا فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان وقال والذي نفسي بيده لو كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء» أخرجاه في الصحيحين، وقيل هم جميع من دخل في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة {لما يلحقوا بهم} لم يدركوهم ولكنهم جاؤوا بعدهم وقيل لم يلحقوا بهم في الفضل والسابقة لأن التابعين لا يدركون شأو الصحابة {وهو العزيز} أي الغالب الذي قهر الجبابرة {الحكيم} أي الذي جعل كل مخلوق يشهد بوحدانيته.
{ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء} يعني الإسلام وقيل النبوة خص بها محمدًا صلى الله عليه وسلم {والله ذو الفضل العظيم} أي على خلقه حيث أرسل فيهم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {مثل الذين حملوا التوراة} يعني اليهود حيث كلفوا القيامة بها والعمل بما فيها وليس هو من الحمل على الظهر وإنما هو من الحمالة والحميل والكفيل {ثم لم يحملوها} أي لم يعملوا بما فيها ولم يؤدوا حقها، {كمثل الحمار يحمل أسفارًا} جمع سفر الكتب العظام من العلم سمى سفرًا لأنه سفر عما فيه من المعنى وهذا مثل ضربه الله تعالى لليهود الذين أعرضوا عن العمل بالتوراة والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم شبهوا إذا لم ينتفعوا بما في التوراة الدال على الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم بالحمار الذي يحمل الكتب ولا يدري ما فيها ولا ينتفع بها كذلك اليهود الذين يقرؤون التوراة ولا ينتفعوا بها لأنهم خالفوا ما فيها وهذا المثل يلحق من لم يفهم معاني القرآن ولم يعمل بما فيه وأعرض عنه إعراض من لا يحتاج إليه ولهذا قال ميمون بن مهران يا أهل القرآن اتبعوا القرآن قبل أن يتبعكم ثم تلا هذه الآية ثم ذم هذا المثل والمراد منهم ذمهم فقال تعالى: {بئس مثل القوم} يعني بئس مثلًا مثل القوم {الذين كذبوا بآيات الله} يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم وما أتي من آيات القرآن وقيل المراد من الآيات آيات التوراة لأنهم كذبوا بها حين تركوا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم {والله لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يهدي من سبق في علمه أن يكون ظالمًا وقيل يعني الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب آيات الله وأنبيائه {قل} أي قل يا محمد {يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس} أي من دون محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه {فتمنوا الموت} ادعوا على أنفسكم {بالموت إن كنتم صادقين} يعني فيما زعمتم أنكم أبناء الله وأحياؤه فإن الموت هو الذي يوصلكم إليه لأن الآخرة خير لأولياء الله من الدنيا {ولا يتمنونه أبدًا بما قدمت أيديهم} أي بسبب ما قدموا من الكفر والتكذيب {والله عليم بالظالمين قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم} أي لا ينفعكم الفرار منه {ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} فيه وعيد وتهديد.
قوله: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة} أي لوقت الصلاة {من يوم الجمعة} أي في يوم الجمعة وأراد بهذا النداء الإذن عند قعود الإمام على المنبر للخطبة لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نداء سواه «كان إذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر أذن بلال» (خ) عن السائب بن يزيد قال: «كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فلما كان عثمان وكثر الناس زاد النداء الثاني على الزوراء» زاد في رواية «فثبت الأمر على ذلك»، ولأبي داود قال: «كان يؤذن بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس على المنبر يوم الجمعة على باب المسجد» وذكر نحوه. الزوراء موضع عند سوق المدينة قريب من المسجد وقيل كان مرتفعًا كالمنارة.
واختلفوا في تسمية هذا اليوم جمعة فقيل لأن الله تعالى جمع فيه خلق آدم وقيل لأن الله تعالى فرغ من خلق الأشياء فيه فاجتمعت فيه المخلوقات وقيل لاجتماع الجماعات فيه للصلاة وقيل أول من سمى هذا اليوم جمعة كعب بن لؤي قال أبو سلمة أول من قال أما بعد كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة وكان يقال لها يوم العروبة، عن ابن سيرين قال جمع أهل المدينة قبل أن يقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وقبل أن تنزل الجمعة وهم الذين سموا الجمعة وقالوا لليهود يوم يجتمعون فيه كل سبعة أيام وللنصارى يوم فهلم فلنجعل يومًا نجتمع فيه فنذكر اسم الله تعالى ونصلي فقالوا يوم السبت لليهود ويوم الأحد للنصارى فاجعلوه يوم العروبة ثم أنزل الله تعالى في ذلك اليوم {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة} الآية عن كعب بن مالك أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحم لأسعد بن زرارة فقال له ابنه عبد الرحمن يا أبت إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال لأنه أول من جمع بنا في هزم النبيت من حرة بني بياضة في نقيع يقال له نقيع الخضمات قلت له كم كنتم يومئذ؟ قال أربعون. أخرجه أبو داود وأما أول جمعة جمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر أصحاب السير أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة مهاجرًا نزل قباء على بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين لثنتي عشرة خلت من ربيع الأول حين امتد الضحى فأقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء ويوم الخميس وأسس مسجدهم ثم خرج من بين أظهرهم يوم الجمعة عامدًا إلى المدينة فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واديهم وقد اتخذوا في ذلك الموضع مسجدًا فجمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطب.
وقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذكر الله} أي فامضوا إليه واعملوا له وليس المراد من السعي الإسراع في المشي وإنما المراد منه العمل وكان عمر بن الخطاب يقرأ فامضوا إلى ذكر الله وقال الحسن أما والله ما هو بالسعي على الاقدام ولقد نهوا أن يأتوا إلى الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وعن قتادة في هذه الآية فاسعوا إلى ذكر الله قال السعي أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها وكان يتأول قوله: {فلما بلغ معه السعي} بقوله فلما مشى معه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» وفي رواية «فإذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة» وذكره زاد مسلم «فإن أحدكم إذا كان يعمد إلى الصلاة فهو في الصلاة» والمراد بقوله فاسعوا إلى ذكر الله الصلاة وقال سعيد بن المسيب هو موعظة الإمام {وذروا البيع} يعني البيع والشراء لأن البيع اسم يتناولهما جميعًا وهو من لوازمه وإنما يحرم البيع والشراء عند الأذان الثاني وقال الزهري عند خروج الإمام وقال الضحاك إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء {ذلكم} أي الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع والشراء {خير لكم} أي من المبايعة في ذلك الوقت {إن كنتم تعلمون} أي من مصالح أنفسكم والله تعالى أعلم.
فصل في فضل الجمعة وأحكامها وإثم تاركها:
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: في فضلها:
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أدخل الجنة وفيه أخرج لما منها»، زاد في رواية «ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» عنه «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر يوم الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل فيها شيئًا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها» عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا أحرم الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر»، وفي رواية «إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المساجد ملائكة يكتبون الأول فالأول فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر» قوله من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة معناه غسلًا كغسل الجنابة عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام ومن مس الحصى فقد لغا» قوله ومن مس الحصى فقد لغا معناه أنه يشغله عن سماع الخطبة كما يشغله الكلام فجعله كاللغو (خ) عن عبادة قال أدركني أبو عيسى وأنا ذاهب إلى الجمعة فقال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول «من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار» عن أبي هريرة قال خرجت إلى الطور فرأيت كعب الأحبار فجلست معه فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما حدثته أن قلت له قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه مات وفيه تيب عليه وفيه تقوم الساعة وما دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقًا من الساعة إلا الجن والإنس وفيها ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي يسأل الله تعالى شيئًا إلا أعطاه إياه» قال كعب ذاك في كل سنة يومًا فقلت بل في كل جمعة فقرأ كعب التوراة فقال صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة فقال عبد الله بن سلام قد علمت أي ساعة هي قال أبو هريرة فقلت أخبرني بها ولا تكن عني، وفي رواية تضن عليّ قال هي آخر ساعة في يوم الجمعة قال أبو هريرة قلت وكيف تقول آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلي» وتلك الساعة لا يصلي فيها قال عبد الله بن سلام ألم يقل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصليها» قال أبو هريرة فقلت بلى قال فهو ذلك أخرجه مالك في الموطأ والنسائي (خ) عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من الطهور ويدهن من دهنه ويمس من طيب بيته ثم يخرج فلم يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة».
الأخرى عن أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «من غسل واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة أجر عمل سنة صيامها وقيامها» أخرجه أبو داود والنسائي قال أبو داود سئل مكحول عن غسل واغتسل قال غسل رأسه وجسده.
المسألة الثانية: في إثم تاركها:
عن عبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على منبره «لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين» عن أبي الجعد الضمري وكان له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه» أخرجه أو داود والنسائي وللترمذي نحوه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلفون عن الجمعة «هممت أن آمر رجلًا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم».
المسألة الثالثة: في تأكيد وجوبها:
قال العلماء صلاة الجمعة هي من فروض الأعيان فتجب على كل مسلم حر بالغ عاقل ذكر مقيم إذا لم يكن له عذر في تركها ومن تركها من غير عذر استحق الوعيد أما الصبي والمجنون فلا جمعة عليهما لأنهما ليسا من أهل الفرض ولا جمعة على النساء بالاتفاق يدل عليه ما روي عن طارق بن شهاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا على أربعة عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض»، أخرجه أبو داود وقال طارق رأى النبي صلى الله عليه وسلم وبعضًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمع منه شيئًا عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة على من سمع النداء» أخرجه أبو داود وقال رواه جماعة ولم يرفعوه وإنما أسنده قبيصة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الجمعة على من آواه الليل إلى أهله»، أخرجه الترمذي ولا تجب الجمعة على العبيد وقال الحسن وقتادة والأوزاعي تجب على العبد المكاتب وعن أحمد في العبيد روايتان وتجب الجمعة على أهل القرى والبوادي إذا سمعوا النداء من موضع تقام فيه الجمعة يلزمهم الحضور وإن لم يسمعوا فلا جمعة عليهم وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق والشرط أن يبلغهم نداء مؤذن جهوري الصوت يؤذن في وقت تكون الأصوات فيه هادئة والرياح ساكنة فكل قرية تكون من موضع الجمعة في القرب على هذا القدر يجب على أهلها حضور الجمعة وقال سعيد بن المسيب تجب الجمعة على من آواه المبيت وقال الزهري تجب على كل من كان على ستة أميال وقال ربيعة على أربعة أميال، وقال مالك والليث على ثلاثة أميال وقال أبو حنيفة لا جمعة على أهل السواد سواء كانت القرية قريبة أو بعيدة دليل الشافعي ومن وافقه ما روي البخاري عن ابن عباس قال: «إن أول جمعة جمعت بعد جمعة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجؤاثى من البحرين» ولأبي داود نحوه فيه بجؤائى قرية من قرى البحرين.
المسألة الرابعة: في تركها لعذر:
كل من له عذر من مرض أو تعهد مريض أو خوف جاز له ترك الجمعة وكذا له تركها بعذر المطر والوحل يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس (أنه خطب في يوم ذي ردغ فأمر المؤذن فلما بلغ حي على الصلاة قال قل الصلاة في الرحال فنظر بعضهم إلى بعض كأنهم أنكروا ذلك فقال كأنكم أنكرتم هذا إن هذا فعله من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم وإنها عزمة وإني كرهت أن أخرجكم) زاد في رواية (فتمشون في الطين والدحض والزلق)، أخرجه البخاري ومسلم وكل من لا تجب عليه الجمعة فإذا حضر وصلى مع الإمام الجمعة سقط عنه فرض الظهر ولكن لا يكمل به عدد الذين تنعقد بهم الجمعة إلا صاحب العذر فإنه إذا حضر كمل به العدد.
المسالة الخامسة: في العدد الذي تنعقد به الجمعة:
اختلف أهل العلم في العدد الذي تنعقد به الجمعة فقيل لا تنعقد بأقل من أربعين رجلًا وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق قالوا لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلًا من أهل الكمال وذلك بأن يكونوا أحرارًا بالغين عاقلين مقيمين في موضع لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفًا إلا ظعن حاجة، وشرط عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال والوالي غير شرط عند الشافعي وقال علي بن أبي طالب: لا جمعة إلا في مصر جامع وهو قول أصحاب الرأي ثم عند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط عنده وقال الأوزاعي وأبو يوسف تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال وقال الحسن تنعقد باثنين وكسائر الصلوات وقال ربيعة تنعقد باثني عشر رجلًا ولا يكمل العدد بمن لا تجب عليه الجمعة كالعبد والمرأة والمسافر والصبي ولا تنعقد إلا في موضع واحد من البلد وبه قال الشافعي ومالك وأبو يوسف وقال أحمد تصح بموضعين إذا كثر الناس وضاق الجامع.
قوله: {فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض} أي إذا فرغ من صلاة الجمعة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم {وابتغوا من فضل الله} يعني الرزق وهذا أمر إباحة قال ابن عباس إن شئت فاخرج وإن شئت فاقعد وإن شئت فصل إلى العصر وقيل قوله فانتشروا في الأرض ليس لطلب دنيا ولكن لعيادة مريض وحضور جنازة وزيارة أخ في الله وقيل وابتغوا من فضل الله هو طلب العلم وعن عراك بن مالك أنه كان إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد وقال اللهم أجبت دعوتك وصليت فريضتك وانتشرت كما أمرتني فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين {واذكروا الله كثيرًا} أي إذا فرغتم من الصلاة ورجعتم إلى التجارة والبيع والشراء فاذكروا الله كثيرًا قيل باللسان وقيل بالطاعة قيل لا تكون من الذاكرين الله كثيرًا حتى تذكره قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا {لعلكم تفلحون} قوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا} عن جابر قال: «بينما نحن نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبلت عير تحمل طعامًا فانفتلوا إليها حتى ما بقي مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا إثنا عشر رجلًا فنزلت هذه الآية وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا» وفي رواية «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائمًا فجاءت عير من الشام وذكر نحوه» وفيه «إلا اثنا عشر رجلًا فيهم أبو بكر وعمر» ولمسلم «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فقدمت سويقة قال فخرج الناس إليها فلم يبق إلا اثنا عشر رجلًا أنا فيهم» وذكر الحديث وهو حجة من يرى صحة الجمعة باثني عشر رجلًا.
وأجيب عنه بأنه ليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة حتى يكون الحديث حجة لاشتراط هذا العدد وقال ابن عباس في رواية عنه لم يبق في المسجد إلا ثمانية رهط قال الحسن وأبو مالك «أصاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بن خليفة الكلبي بتجارة زيت وطعام من الشام والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب فلما رأوه بالبقيع قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا رهط فيهم أبو بكر وعمر، فنزلت هذه الآية فقال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفس محمد بيده لو تتابعتم حتى لا يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي نارًا» وقال مقاتل «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قدم دحية بن خليفة الكلبي من الشام بالتجارة وكان إذا قدم لم تبق عاتق بالمدينة إلا أتته وكان يقدم بكل ما يحتاج إليه من دقيق وبر وزيت وغيره وينزل عند أحجار الزيت وهو مكان في سوق المدينة ثم يضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه فيخرج إليه الناس ليبتاعوا منه فقدم ذات جمعة وذلك قبل أن يسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم على المنبر يخطب فخرج إليه الناس ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلًا وامرأة فقال النبي صلى الله عليه وسلم كم بقي في المسجد؟ فقالوا اثني عشر رجلًا وامرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا هؤلاء لسومت لهم الحجارة من السماء فأنزل الله هذه الآية»
وأراد باللهو الطبل وكانت العير إذا قدمت استقبلوها بالطبل والتصفيق، وقوله تعالى: {انفضوا} أي تفرقوا وذهبوا نحوها والضمير في إليها راجع إلى التجارة لأنها أهم إليهم وتركوك قائمًا اتفقوا على أن القيام كان في الخطبة للجمعة قال علقمة «سئل ابن مسعود أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائمًا أو قاعدًا؟ قال أما تقرؤون {وتركوك قائمًا}» قال العلماء الخطبة فريضة في صلاة الجمعة وقال داود الظاهري هي مستحبة ويجب أن يخطب الإمام قائمًا خطبتين يفصل بينهما بجلوس وقال أبو حنيفة وأحمد لا يشترط القيام ولا القعود وتشترط الطهارة في الخطبة عند الشافعي في أحد القولين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة أن يحمد الله ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويوصي بتقوى الله هذه الثلاث شروط في الخطبتين جميعًا ويجب أن يقرأ في الأولى آية من القرآن ويدعو للمؤمنين في الثانية ولو ترك واحدة من هذه الخمسة لم تصح خطبته ولا جمعته عند الشافعي وذهب أبو حنيفة إلى أنه لو أتى بتسبيحة أو تحميدة أو تكبيرة أجزأه وهذا القدر لا يقع عليه اسم الخطبة وهو مأمور بالخطبة والسنة للإمام إذا صعد المنبر أن يستقبل الناس وأن يسلم عليهم خلافًا لأبي حنيفة ومالك وهل يحرم الكلام في حال الخطبة فيه خلاف بين العلماء والأصح أنه يحرم على المستمع دون الخاطب ويستحب أن يصلي تحية المسجد إذا دخل والإمام يخطب خلافًا لأبي حنيفة ومالك.
ذكر الأحاديث الواردة الدالة على هذه الأحكام:
عن ابن عمر قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب خطبتين يعقد بينهما» وفي رواية أخرى «كان يخطب يوم الجمعة وهو قائم ثم يقوم فيتم كما يفعلون الآن» عن جابر بن سمرة قال: «كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكر الناس» زاد في رواية «فمن حدثك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب»، عن كعب بن عجرة أنه دخل المسجد وعبد الرحمن بن الحكم يخطب جالسًا فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا وقد قال الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًا}، عن جابر بن سمرة قال: «كنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة فكانت صلاته قصدًا وخطبته قصدًا» زاد أبو داود ويقرأ آيات من القرآن ويذكر الناس عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء» أخرجه أبو داود والترمذي ولأبي داود عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» عن ابن مسعود «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تشهد قال الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا من يهدي الله فهو المهتد ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله بالحق بشيرًا ونذيرًا بين يدي الساعة من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصيهما فإنه لا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئًا» وفي رواية أن يونس سأل ابن شهاب عن تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فذكر نحوه وقال فيه «ومن يعصيهما فقد غوى ونسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله ويتبع رضوانه ويجتنب سخطه إنما نحن به وله» أخرجه أبو داود عن جابر بن عبد الله قال: «كانت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله ثم يقول على أثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول صبحكم ومساكم ويقول: بعثت أنا والساعة كهاتين ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى ويقول أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ثم يقول أنا أولى بكل مؤمن من نفسه من ترك مالًا فلأهله ومن ترك دينًا أو ضياعًا فإليّ وعليّ» عن ابن مسعود قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استوى على المنبر استقبلناه بوجوهنا» أخرجه الترمذي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنصت والإمام يخطب فقد لغوت» عن نافع أن ابن عمر رأى رجلين يتحدثان والإمام يخطب يوم الجمعة فحصبهما أن اصمتا أخرجه مالك في الموطأ قال ابن شهاب خروج الإمام يقطع الصلاة وكلامه يقطع الكلام.
فأما صفة صلاة الجمعة:
فركعتان يجهر فيهما بالقراءة ولجواز الجمعة خمس شروط الوقت وهو وقت الظهر ما بين زوال الشمس إلى دخول وقت العصر والعدد والإمام والخطبة ودار الإقامة فإن فقد شرط من هذه الشروط لخمس يجب أن يصلي ظهرًا ولا يجوز للإمام أن يبتدئ الخطبة قبل تمام العدد وهو أربعون عند الشافعي فلو اجتمعوا وخطب بهم ثم انفضوا قبل افتتاح الصلاة أو انفض واحد من العدد لا يجوز أن يصلي بهم الجمعة بل يصلي الظهر ولو افتتح بهم الصلاة ثم انفضوا فأصح أقوال الشافعي أن بقاء الأربعين شرط إلى آخر الصلاة كما أن بقاء الوقت شرط إلى آخر الصلاة فلو نقص واحد قبل أن يسلم الإمام يجب على الباقين أن يصلوها ظهرًا، وفيه قول آخر وهو أنه إن بقي معه اثنان أتمها جمعة وقيل إن بقي معه واحد أتمها جمعة وعند المزني إن انفضوا بعد ما صلى بهم الإمام ركعة أتمها جمعة وإن بقي وحده وإن كان في الركعة الأولى يتمها أربعًا وإن انفض من العدد واحدًا، وبه قال أبو حنيفة لكن في العدد الذي يشترط كالمسبوق إذا أدرك مع الإمام ركعة من الجمعة فإذا سلم الإمام أتمها جمعة وإن أدرك أقل من ركعة أتمها أربعًا.
(خ) عن أنس «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» عن عبيد الله بن أبي رافع قال: «استخلف مروان أبا هريرة على المدينة وخرج إلى مكة فصلى بنا أبو هريرة الجمعة فقرأ بعد الحمد سورة الجمعة في الأولى وإذا جاءك المنافقون في الثانية قال فأدركت أبا هريرة حين انصرف فقلت له إنك قرأت سورتين كان علي بن أبي طالب يقرأ بهما في الكوفة فقال أبو هريرة إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بهما يوم الجمعة»، عن النعمان بن بشير رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين» عن سمرة بن جندب رضي الله عنهما «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى وهل أتاك حديث الغاشية» أخرجه أبو داود والنسائي.
وقوله تعالى: {قل ما عند الله} أي ما عند الله من الثواب والأجر على الصلاة والثبات مع النبي صلى الله عليه وسلم {خير من اللهو ومن التجارة} الذي جاء بهما دحية {والله خير الرازقين} يعني أنه تعالى موجد الأرزاق وأصلها منه فإياه فاسألوا ومنه فاطلبوا، والله تعالى أعلم. اهـ.